في رحاب أبي الأحرار محمد محمود الزبيري

ثمّة صادقون في نضالهم؛ لكن لصدق الزبيري مذاق خاص، وثمة أحرار في مواقفهم؛ لكن لحرية الزبيري نَكهتَها الخاصة، وثمة رجالُ مواقف كثر، لكن مواقف أبي الأحرار مختلفة ومتميزة ومدهشة.
أبو الأحرار الشهيد محمد محمود الزبيري شخصية استثنائية في تاريخ الحركة الوطنية اليمنية، مناضلا عتيدا ومجاهدا صلبا لم تلن له قناة أمام طغيان الكهنوت الإمامي البغيض، منتصرا لقضية الوطن، ولقضية الشعب على الرغم من المغريات التي بذلت أمامه، وعلى الرغم من قسوة الحياة وشظف العيش في السجون والمعتقلات أولا، ثم في المهجر والاغتراب ثانيا، وعلى الرغم من ألم رصاصة البندقية التي اخترقت جسده الطاهر.
مواقف بطولية خالدة، خلدتها روح الكلمة الخالدة التي حبرها قلمُه وسود بها الصحائف والكتب حتى اليوم، كما خلدتها جبهات النضال في خولان وسنحان وحاشد وبرط حتى لقي ربه هناك، وقد جعل من الكلمة سلاحه الأول؛ فقاتلَ بالقصيدة، وبالخطابة، وبالرواية، وبالمقالة، وقبل ذلك كله قاتلَ بروح ثورية عتيدة تنتمي لضمير الشعب وتختزل روح الأمة.
وما حملتُ يراعي خالقًا بيدي إلا ليصنع أجيالا وأوطانا
يخاله الملك السفاح مقصلة في عنقه ويراه الشعب ميزانا
من هنا يحكي قصته مع الشعر، قائلا: "قصتي مع الشعر هي قصتي مع الحياة.. وذلك لأن الشعر نبضةٌ من نبضات الحياة يدور معها حيث تدور، وهو ظلٌ يعبر عن ألوانها وتقلباتها".
مضيفا: "تسلّم الشعرُ زمام نفسي وأخذ يوجهها داخل النطاق الروحي دون أن يدري، ويغامر بها في تجارب الأحلام، ويطير بها عبر دروب عديدة من المسارات، فشرق بها وغرب، وشمأل وجنّب، وأقدم وأحجم، وهادنَ وحارب، واقتحم بها دنيا العصر الحديث قفزة ظافرة، اجتازت القرون من سنين، وخاضت مع جيل العصر مختلف الأفكار والتيارات، ومصطرع المذاهب الدينية والسياسية والأدبية والاجتماعية".
قال للإمام، وبملء فيه: لا. لن نستكين، ولن نكون عبيدا لكم، صارخا بكل عزم وثبات:
كفرتُ بعهد الطغاة البغاة وما زخرفوه وما زيفوه
وأكبرت نفسي عن أكون عبدا لطاغية توجوه
وعن أن يراني شعبي الذي يعذب عونا لمن عذبوه
ويواصل نضاله بالكلمة الثائرة، بروح مشبعة بالوطنية وبكبرياء اليمني دون كلل أو ملل على شظف العيش وشدة المخاطر..
سجل مكانك في التاريخ يا قلم فهاهنا تبعث الأجيال والأمم
هنا البراكين هبت من مضاجعها تطغى وتكتسح الطاغي وتلتهم
واقترب موعد الثورة الدستورية وكان الزبيري أحد أعلامها الكبار ومهندسيها الأوائل، غير أن الرياح قد جاءت بما لم تشتهه السفن، واضطر بعد ذلك لمغادرة اليمن التي لم تغادر وجدانه وأحاسيسه، فنذر حياته لقضيتها التاريخية، متنقلا بين البلدان يحمل هما وهمة، ولم يصبه اليأس أو الملل، بل واصل النضال بالكلمة، شاعرا وكاتبا، بهمة عالية استمدها من شموخ جبال اليمن الرواسي، مستقرا بباكستان حتى قيام ثورة يوليو المصرية في يوليو 1952م. وفي باكستان نظم قصيدته الرائعة والذائعة الصيت بعنوان "الحنين إلى الوطن" ومنها:
وطني أنت نفحة الله ما تبـ
ـرح لا عن قلبي ولا عن لساني
صنع الله منك طينة قلبي
وبرى من شذاك روح بياني
هاك ما قد طهرته لك في دم
عي وما قد صهرته في جَناني
شعلة القلب لو أُذيعت لقالوا:
مرّ عبر الأثير نصل يماني
وعقب قيام ثورة يوليو المصرية ذهب إلى مصر، وأسس مع رفاقه الاتحاد اليمني هناك، مخصصا برنامجا خاصا عن القضية اليمنية في إذاعة صوت العرب، حيث مثّل هذا البرنامج نافذة جديدة للنور وأحد الروافد الثقافية والسياسية التي غذت فكر وثقافة الثورة القادمة.
وواصل مشوار التحدي للطغيان الجاثم، بروح وثابة وأمل متدفق، حتى قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م، وعقبها عاد فورا، لا إلى كرسي الوزارة، وقد تم تعيينه وزيرا للمعارف؛ بل إلى جبهات القتال وميادين الحرب، خطيبا وموجها ومرشدا للقوم، حتى اخترمته منيته برصاصة غادرة في مطلع ابريل 1965م.
لقد كان أبو الأحرار من خيرة وأفضل من فند المشكلة اليمنية:
أدواءها وعللها المزمنة في كتابه الإمامة وخطرها على وحدة اليمن، بحدس السياسي المستبصر، والمؤرخ الفطن، والشاعر الشفيف، حيث أكسبه خياله الشعري استشفاف القضية من جميع جوانبها، ولا تزال تلك الحلول التي سطرها بقلمه في تلك المرحلة هي حلول لحظتنا الراهنة بجميع تفاصيلها رغم الفارق الزمني؛ لأن جوهر القضية واحد، والمشكلة هي ذاتها تتكرر بين الحين والحين. وستظل الإمامة هي معضلة اليمنيين التاريخية، ما لم يضعوا لها حدا نهائيا اليوم، حفاظا على مستقبل أبنائنا ومستقبل أجيالنا القادمة.
لقد كان الزبيري رحمه الله نافخ الروح الثورية في وجدان وأحاسيس الشعب اليمني، وكأنه حادي القوم في مسراهم؛ لذا ظلت روحه سارية في جسد الشعب إلى اليوم علما خالدا مخلدا في الذاكرة الشعبية، ومنه يستلهم الأبطال اليوم نضالاتهم ومكافحتهم داء الإمامة الوبيل. صحيح أن الإمامة قتلته، وهو في أوج عطائه ينازلهم العداء، أو قل قضت عليه جسدا؛ لكنها خلدته روحًا قائمة إلى يوم القيامة، قتلوا زبيريا واحدا، فخلق الشعب ألف زبيري، ها هم اليوم قد تسلموا منه راية النضال وبيارق النصر، في كل أنحاء اليمن، وهاهم اليوم يواصلون المسير بروح زبيرية عاتية، تقض مضاجع الكهنة في عقر دارهم.
فمن انتمى للشعوب هيهات أن تنساه، ومن اختار الانحياز لقضايا الجمهور، ومطالب الوطن لن ينسوه، وسيظل كذلك في وجدان وروح كل جيل قادم. ذلك أن روح الزبيري تلاقحت مع روح الشعب، فكان ذلك الشعور المتبادل، وكان ذلك الوفاء لرجل نذر حياته لقضية الوطن الكبرى، حتى آخر نفس من حياته.
لقد ظل الزبيري ثابتا على مواقفه الوطنية، وللمبدأ الذي نشأ عليه، حتى آخر قطرة من دمه، مناوئا الإمامة، ومنازلا إياها، وبوسعه أن يعيش كما يعيش أمراء بيت حميدالدين يومها، بالمناصب والمال، ولكنه لم يفعل، فاستمر في صف الشعب حتى لفظ آخر نفس من حياته، شهيدا برصاصة الغدر الإمامية، ولسان حاله:
بحثتُ عن هبةٍ أحبوك يا وطني فلم أجد لك إلا قلبي الدامي