العُقدة التَّعِزّيّة..! (1-2)

قالت العربُ قديماً: أزهدُ الناس بالمرءِ أهلُه وذووه، وقيل أيضاً: لا كرامةَ لنبيٍّ في قومه!
مقولةٌ، وربما مقولات كثيرة في هذا السياق، تذكر كيفية تنكر الناس لأقاربهم وذويهم مهما بلغ شأنهم في العالمين، ومهما امتلكوا من حكمة وعلم وجاه وصدارة وغير ذلك، فيكون أهله ومجتمعه الصغير أول من يتنكر له ويُنكرُ عليه، ويتصدى له، ويقلل من شأنه وقيمته، وما أقساها من محنة وخذلان لا يدركها إلا من تعرض لها!
صار معروفاً بين الناس اليوم كثرة الاختلافات والتنكرات، وربما الصراعات والتنافرات بين أبناء تعز خاصة كصراع الديكة؛ فهم لا يتفقون على رأي، ولا يجتمعون على رأس، ومن برز منهم كان أول الناكرين لفضله ومكانته هم قومه وأقرباؤه وذووه.
موضوع لطالما فكرت لأكتب عنه منذ زمن بعيد، وربما جاء وقته وأنا أرى الخلافات البينية تعصف بالمجتمع التعزي وتفتت المفتت منه وتخلق المشاكل المختلفة في المدينة التي كنا نعدها فاضلة لا تعرف القتل ولا النهب ولا العصابات ولا التقطعات، بينما المخاطر تحدق بهم من كل صوب.
فبينما كنت أبحث في المصادر التاريخية وأدون كتاب عبدالرقيب عبدالوهاب صادفت الكثير من الشواهد المحزنة والتي لا تزال تتكرر إلى اليوم، ومع كل حدث.
في شهر أكتوبر من العام 2017 زار النائب عبدالعزيز جباري مدينة تعز، وكان حينها يشغل منصب نائب رئيس الوزراء، وكانت مكونات تعز تتصارع فيما بينها ولا يقبل أحدها بالآخر، وتعددت الرؤوس، وصار كل رأس يريد أن يكون هو المتصدر للمشهد السياسي والعسكري في المحافظة التي تقتلها الحوثية كل يوم.
وبسرعة مذهلة استجاب الجميع لمساعي جباري حينها، وانقادوا له بكل سهولة، بينما لم يتنازل بعضهم لبعض لتوحيد الصف والكلمة والموقف لمواجهة العدو المتربص بهم؛ فقد كانت تعز تُقتل من كل الأطراف، وتخذلها كافة الجهات والسلطات، حتى أصبحت أشد محافظة منكوبة وتدفع ثمن الانقلاب الذي ركز عليها لإذلالها وتدميرها دون بقية المحافظات، وهي تتصدى له أيضاً أكثر من بقية المحافظات؛ فلم تكن الحوثية وحدها من يتربص بها أو يقتلها؛ فقد كان خذلان الشرعية لها والمكونات الجنوبية، وخاصة الانتقالي الذي كان يتقطع لكل مساعدة لها بالأسلحة ويذل أبناءها العاملين في المناطق الجنوبية، وكان أشد إيلاماً عليها من القتل الحوثي!
ذكرني هذا الموقف بقضية هي من أشد القضايا إنسانية عبر التاريخ التعزي الحديث، حتى وإن كانت عفوية، أو عن جهل.
فبينما ينظر الناس إلى الشيخ عبدالوهاب نعمان أنه كان رأس تعز الحر، وهو قائم مقام الحجرية (مرتبة العامل عند الإمام) إلى جانب رؤوس آخرين منها ومن محافظة إب والحديدة، بينما الإمامة تدرك قيمته وتحاول إذلاله والظفر به، والناس تخشى عليه وتستاء من اعتقاله ونهبه من قبل علي الوزير، عامل الإمام يحيى المتسلط على محافظة تعز، كان أخوه محمد نعمان (والد الأستاذ أحمد) على علاقة متميزة مع علي الوزير، وكتب له رسالة –كأنها تشفي وخذلان لأخيه عبدالوهاب- يقر فيها برواية الوزير أنهم دبروا محاولة لاغتياله، يقول فيها: "بلغنا ما دبره الظالمون الذين أحرقوا أنفسهم بما صنعوا، ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين". يقول الأستاذ النعمان: "كان والدي يبرر للوزير ما فعله معتقداً أنه صادق، وأن أخاه ظالم، وأنه يستحق العقاب"؛ فقد كانت نظرتهم للإمام وعماله نظرة مقدسة، وأنهم معصومون لا يخطئون!
هو ذات المنطق الذي يتكرر بين أبناء تعز ضد بعضهم البعض عند المحن والغزو الخارجي "يستاهلوا.. من قلهم يعارضوا أو يفعلوا كذا وكذا"، وبذات المنطق انقسم أبناء تعز قسمين؛ قسم مع المليشيات الحوثية ضد القسم الآخر من أحرارها الذين دافعوا عنها واستبسلوا في كرامتها.
ونفس منطق والد النعمان، كرره الأستاذ النعمان ضد قريبه وابن عمه بطل السبعين الشهيد عبدالرقيب عبدالوهاب نعمان؛ فبينما كان الرجل يسطر ملاحم بطولية في الدفاع عن صنعاء كان النعمان يصرح أن الذين يدافعون عنها إنما هم الشيوعيون والماركسيون، وأنهم يعملون ضد المصالحة الوطنية، وهو الأمر الذي حدا بالسلطات حينها لسحب الجواز اليمني عنه.
وفي صراع أغسطس الدامي فقد كان رأي النعمان أيضاً إلى جانب طرف العمري والإرياني ضد قريبه عبدالرقيب ورفاقه، فقد كان ينظر إليهم كانقلابيين متمردين يعملون ضد المصالحة الوطنية.
مما يفسر هذا الأمر أن العصبية القبلية والمناطقية غير موجودة لدى أبناء تعز؛ فهم يدورون مع الدولة حيث دارت، وينشدونها في كل موطن، ويؤازرونها في كل حدث؛ فقد اعتادوا على النظام والقانون والمؤسسات باعتبارهم مدنيين لا قبليين ولا تجمعهم عصبة واحدة ولا عرق واحد ولا فكر واحد يلتفون حوله، وزادت الحزبية أن مزقتهم شذر مذر، وكل مشاكل المحافظة اليوم من ذاك التشتت الحزبي الذي يرى كل حزب أن لديه الحق الكامل فيما يذهب إليه أو يتبناه بعكس الآخر.
الشواهد التاريخية كثيرة حول هذا الموضوع، ومنها نشأة وتكوين الإمام المهدي محمد بن الحسن وتأسيس دولته في الدملؤة، ودعم بني مغلس لإمامته على حسب قومهم، ومن بعضها أيضاً صراعات كبرائهم على تزعم طرف الثورة في محافظة تعز بين عبدالغني مطهر والشيخ محمد علي عثمان وآخرين، كما يقول النائب السابق لرئيس الجمهورية الفريق الركن علي محسن الأحمر.
فقد سألته عن سبب اعتقال عبدالغني مطهر ورفاقه قبل وبعد أحداث أغسطس 1968، فقال من ضمن أسبابها صراعات على الزعامة بينه وبين بعض شخصيات تعز المتصدرة كالشيخ محمد علي عثمان، ولكنها ليست كل الأسباب؛ فقد رأينا أن عبدالغني مطهر لم يتطرق إلى هذا الأمر كثيراً، وعلى العكس من ذلك فقد كان متحسراً وحزيناً على صديقه الشيخ عبدالقوي حاميم الذي يتهم الإرياني وغيره باغتياله في الراهدة، وقد كان هو والأسودي وغيرهم متكاتفين وليسوا متصارعين ولا متنافسين.
هناك شاهد تاريخي آخر على هذا الصراع والانقياد للآخر من غير المناطق التعزية؛ فقد كان الشيخ الحكيمي يستقبل الأحرار من المناطق الشمالية إلى عدن، وكونوا الاتحاد اليمني للأحرار، وكان الحكيمي يرأس هذا الاتحاد في عدن وفرعه في القاهرة يرأسه الزبيري، فعارض الحكيمي الزبيري وانشق عنه، فكان أن انشق عن الحكيمي وعارضوا قيادته لهذا الاتحاد شعلان والأسودي وأيدا قيادة الزبيري وفي نفس الوقت يعارضان الأستاذ النعمان وارتبطا بالبيضاني!
ونفس الأمر في الانقياد السهل يتكرر بين أبناء محافظة تعز لمن دونهم، ويدعم بعضهم ضد بعض حتى وإن كان في يومٍ من الأيام ضدهم وقاتلهم، فقد اتجه الكثير منهم غرباً إلى طارق صالح، ويستعد مثير منهم حتى لو عادوا مقاتلين إخوانهم معه، وربما لعب المال هنا لعبته؛ فما من شخص أو جهة استطاعت أن تقف في وجه صاحب المال والنفوذ إلا القليل النادر عبر التاريخ.
في مسيرتي المهنية والوظيفية، سواء في السلك العسكري أو المدني، ومن خلال الملاحظات المختلفة، لقد عايشت مسؤولين من أبناء محافظة تعز من كل المستويات، من أعلى مستوى إلى أدنى الدرجات والمراتب فإن المسؤول التعزي يفضل تعيين شخص آخر من غير محافظته، وإن كان أعلى تأهيلاً وأقدم التحاقاً وأجدر استحقاقاً، ويتعامل باللين مع غيرهم والقسوة مع ذويه وصاحبه هروباً من اللوم المناطقي العصبوي وإثبات عدم التعصب، بينما عند الآخرين يعملون موجات دون مبالاة ولا اكتراث للوم لائم.
وربما لم يكن هذا الأمر في تعز خاصة؛ ففي بعض المحافظات ما يشبهها وخاصة في محافظتي عدن وإب، وقيل من بعض الأصدقاء صعدة أيضاً.
لكن نجد أن الإمام الشوكاني -رحمة الله تغشاه- تعرض لهذه القضية باعتبار كثير من الطوائف اليمنية، تسيطر عليها هذه الأمور، مع أن آخرين حرفوا مقولته هذه وعمموها على كل اليمن وهو أمر غير صحيح، فقد خص بها الزيدية فقط، فيقول:
الزيدية مع كثرة فضلائهم ووجود أعيان منهم في كل مكرمة على تعاقب الأعصار لهم عناية كاملة ورغبة وافرة في دفن محاسن أكابرهم وطمس آثار مفاخرهم، فلا يرفعون إلى ما يصدر عن أعيانهم من نظم أو نثر أو تصنيف رأساً، وهذا مع توفر رغباتهم إلى الاطلاع على ما يصدر من غيرهم والاشتغال الكامل بمعرفة أحوال سائر الطوائف والإكباب على كتبهم التاريخية وغيرها. وإني لأكثر التعجب من اختصاص المذكورين بهذه الخصلة التي كانت سببا لدفن سابقهم ولاحقهم وغمط رفيع قدر عالمهم وفاضلهم وشاعرهم وسائر أكابرهم، ولهذا أهملهم المصنفون في التاريخ على العموم كمن يترجم لأهل قرن من القرون أو عصر من العصور، وإن ذكروا النادر منهم ترجموه ترجمة مغسولة عن الفائدة عاطلة عن بعض ما يستحقه ليس فيها ذكر مولد ولا وفاة ولا شيوخ ولا مسموعات ولا مقروءات ولا أشعار ولا أخبار؛ لأن الذين ينقلون أحوال الشخص إلى غيره هم معارفه وأهل بلده، فإذا أهملوه أهمله غيرهم وجهلوا أمره.
ومن هذه الحيثية تجدني في هذا الكتاب إذا ترجمت أحداً منهم لم أدر ما أقول؛ لأن أهل عصره أهملوه، فلم يبق لدى من بعدهم إلا مجرد أنه فلان بن فلان، لا يدري متى ولد ولا في أي وقت مات وما صنع في حياته. (البدر الطالع: ج1/60).
..... يتبع\