تصعيد غير مسبوق في الحرب الاقتصادية باليمن: الصراع النقدي يهدد الاقتصاد الوطني والمواطنين

في تصعيد لافت للحرب الاقتصادية التي تشهدها اليمن منذ سنوات، دخل الصراع النقدي بين الحكومة المعترف بها دوليًا في عدن وجماعة الحوثيين في صنعاء مرحلة جديدة تنذر بتداعيات خطيرة على الاقتصاد الوطني وعلى حياة المواطنين الذين يعانون بالفعل من أوضاع إنسانية ومعيشية كارثية. هذا التصعيد المتنامي يعكس تعقيد الأزمة اليمنية وتحولها إلى ساحة صراع متعددة الأبعاد، حيث لم تعد القضايا العسكرية والسياسية فقط هي المهيمنة، بل أصبحت الهيمنة على النظام المصرفي والمجال الاقتصادي ساحة موازية لا تقل أهمية.
إعلان عدن ورد صنعاء: بداية الانقسام المالي الحاد
أعلن البنك المركزي اليمني في عدن، الذي يعتبر الجهة الوحيدة المعترف بها دوليًا، وقف التعامل مع ستة بنوك كبرى تتخذ من صنعاء مقرًا لها، وذلك بعد رفض هذه البنوك نقل إدارتها إلى عدن كما طلبت الحكومة الشرعية. القرار جاء كجزء من استراتيجية أوسع تستهدف الضغط على جماعة الحوثيين وتقليص قدرتهم على إدارة القطاع المالي في المناطق الخاضعة لسيطرتهم.
لم يكن الرد من صنعاء أقل حدة؛ فقد أصدر البنك المركزي التابع للحوثيين قرارًا مضادًا يمنع التعامل مع 12 بنكًا تعمل في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة الشرعية. هذا التبادل الحاد في القرارات يشير إلى انقسام مالي عميق قد يؤدي إلى تشظٍّ اقتصادي كامل، مما يزيد من عزلة المناطق عن بعضها البعض ويقطع الروابط المالية التي كانت قائمة حتى الآن.
أزمة السيادة النقدية وانقسام سعر الصرف
يُجسد هذا الصراع أزمة سيادة حقيقية على النظام المصرفي اليمني، حيث تعيش البلاد حالة غير مسبوقة من الازدواجية في السياسات النقدية. فبينما يصل سعر صرف الدولار الأمريكي في مناطق سيطرة الحكومة إلى نحو 1760 ريالًا يمنيًا، يظل سعر الصرف في مناطق الحوثيين عند مستويات أقل بكثير، حوالي 531 ريالًا للدولار.
الخبير الاقتصادي الدكتور يوسف سعيد وصف الخطوات الحوثية بأنها "تعميق متعمد للانقسام النقدي"، مشيرًا إلى أن منع تداول العملة الجديدة الصادرة عن البنك المركزي في عدن وفرض سعر صرف وهمي في مناطق سيطرتهم قد تسبب في شلل مالي وانكماش اقتصادي حاد في مناطق الحكومة الشرعية. وأضاف: "هذا الانقسام النقدي ليس مجرد خلاف سياسي، بل هو أداة لمعاقبة السكان وإضعاف الحكومة الشرعية، وهو ما يدفع باليمن إلى هاوية اقتصادية عميقة."
تداعيات إنسانية واقتصادية
التداعيات الإنسانية لهذا الصراع النقدي بدأت تظهر بوضوح، حيث يعاني المواطنون في مناطق سيطرة الحكومة الشرعية من انهيار غير مسبوق في القدرة الشرائية وتدهور قيمة العملة المحلية. هذا الانهيار أدى إلى ارتفاع جنوني في أسعار السلع الأساسية، بما في ذلك الغذاء والدواء، مما زاد من معاناة ملايين اليمنيين الذين يعتمدون على المساعدات الإنسانية للبقاء على قيد الحياة.
أما في مناطق سيطرة الحوثيين، فإن الإجراءات النقدية التي تتبعها الجماعة، مثل منع تداول العملة الجديدة وفرض ضوابط صارمة على السوق السوداء للعملة الأجنبية، أدت إلى اختلالات اقتصادية أخرى، منها نقص السيولة وتراجع النشاط التجاري والاستثماري.
البنك المركزي في عدن: اليد العليا أم الضغط المتزايد؟
على الرغم من التحديات الكبيرة التي تواجهها الحكومة الشرعية، إلا أن البنك المركزي في عدن يحتفظ بميزة استراتيجية تمثلت في كونه الجهة الوحيدة المعترف بها دوليًا والتي يمكنها استخدام نظام التحويلات المالية العالمي (سويفت). هذه الميزة أعطت البنك اليد العليا في التحكم بعمليات الاستيراد والتمويل الدولي، وهو ما يمثل ضغطًا متزايدًا على الحوثيين الذين يحاولون العثور على منفذ مالي بديل لتعويض العزلة الدولية التي تواجههم.
ومع ذلك، فإن الاعتماد على نظام (سويفت) ليس خالٍ من التحديات؛ فالإجراءات الدولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب قد تؤدي إلى تقييد أكبر لقدرة البنك المركزي في عدن على التعامل مع البنوك العالمية، مما قد يعقد المشهد أكثر.
ماذا بعد؟
المشهد الحالي ينبئ بمرحلة جديدة من التصعيد الاقتصادي الذي قد يكون له تداعيات أكثر خطورة على استقرار اليمن. إذ إن استمرار الانقسام النقدي والسياسات النقدية المتناقضة قد يؤدي إلى انهيار كامل للنظام المصرفي الوطني، وبالتالي زيادة معاناة الشعب اليمني الذي يعاني بالفعل من واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم.
وفي ظل غياب أي حلول سياسية قريبة للأزمة اليمنية، يبدو أن الحرب الاقتصادية ستظل أحد أبرز أدوات الصراع بين الأطراف المتنازعة، مما يترك الشعب اليمني رهينة لحرب لا نهاية لها، تأكل الأخضر واليابس على حد سواء.
يبقى السؤال الأهم: هل ستتمكن الجهود الدولية من لجم هذا التصعيد الاقتصادي وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الاقتصاد اليمني؟ أم أن الحرب الاقتصادية ستكون القشة التي ستقصم ظهر البعير في بلد أنهكته سنوات من النزاعات والحروب؟